أم وصحفية .. أم وإعلامية .. أم وكاتبة .. ينطبق جميع ما سبق على ذاتي الضعيفة في مواجهة العالم، ويمكنني أن أضيف إليها كلمة أخرى تجعل التوصيف أكثر دقة في التعبير التوصيفي للحالة، ألا وهي : ( في مصر).
كانت البداية عندما رفض الأديب ورئيس تحرير الجريدة الأدبية الشهيرة تعييني رغم أحقيتي على زملاء آخرين نالوا شرف التعيين، وذلك لأنني حامل، لكن لعلمه بمهاراتي الصحفية كتب اسمي في قائمة التعيينات تحت مسمى ( تستمر في العمل تحت التمرين). كنت أكملت حينها عامين من العمل الدؤوب في الجريدة، لكنني أخطأت وتزوجت، وأخطأت أكثر وحملت.
كانت المفاجأة الصادمة حينها أنني اكتشفت حملي لتوأم في رحمي، ما يهدد وبعنف مستقبلي الصحفي، الذي لم يكن بسيطاً أو عادياً بالنسبة لي، بل هو مسألة هوية، هويتي التي عشت بها منذ كنت في الحادية عشر من عمري وقررت أن أكون كاتبة وصحفية، ولا أتذكر شيئاً منذ ذلك الوقت سوى العمل على تحقيق الحلم والمضي قدماً فيه والإصرار على تطويره رغم كل الصعاب.
أتذكر تماماً رئيس تحرير الجريدة الفنية التي قام رئيس مجلس إدارة المؤسسة بتحويلي إليها، عندما أخبروه بمهاراتي الصحفية، أتذكره رحمة الله عليه وهو ينظر لي مشفقاً على حملي الثقيل مقارنة بجسدي الضئيل وأنا في نهاية الشهر الثامن من حملي: ( رحم الله امرئ عرف قدر نفسه.. هل ستستطيعين العمل بعد الولادة؟) .. فأجبته بعزيمة وإصرار: ( رحم الله امرئ عرف قدر نفسه فعلاً.. وأنا أعرف قدر نفسي ولذلك سأستمر في العمل بعد الولادة).
لم أكن مُعينة عندما وضعت توأمي محمد وميريت، لذلك لم تكن لدي رفاهية الحصول على إجازة وضع كاملة، ونزلت إلى العمل بعد شهر واحد من الولادة، كنت أحمل رضيعاي على كتفي، وحقيبة ضخمة تحتوي على أغراضهما، وأذهب إلى أمي كل يوم لأتركهما عندها ثم أتوجه إلى عملي.. ولما اشتد عودهما قليلاً كنت أصطحبهما معي في التغطيات الصحفية والحوارات وغيرها.
كان الشارع المصري حينها أكثر رحمة مما هو عليه اليوم، أذكر تماماً عندما كان سائقوا الميكروباص وركاب الأتوبيسات يلتقطون مني الطفلين ويفسحون لنا مكاناً لنجلس، بل أذكر أنني لم أكن أشعر بأي خوف عندما تلتقط امرأة أحدهما من على ذراعي لتحمله عني حتى أصل إلى المكان الذي أبتغيه. كما أذكر بابتسامة عريضة كل الأماكن التي كنت مكلفة بتغطية أحداثها وهم يستقبلون الصغيرين بفرحة وأنا أعمل.
نشأ الصغيران على تقديس عمل أمهما، فلم يتسببا في إزعاج أو تعطيل لي عن العمل، كانا يلزمان الصمت حتى أنتهي من عملي، بل أنهما كانا يستيقظان صباحاً سائلين: ( متى سنذهب إلى العمل) .. وربما كان ذلك سبباً أيضاً في أنهما الآن وفي سن مبكرة يجربان العمل والكسب وهم لم يبدءا دراستهما الجامعية بعد.
وعلى الرغم من تفهم توأمي لطبيعة عمل أمهما، وتقديس الشارع المصري حينها لتعبي في حملهما في الشارع، إلا أن رؤسائي في العمل لم يتفهما الأمر وتعرضت لكثير من الاضطهاد لكوني امرأة وأم.
أذكر أن تعييني في المؤسسة الصحفية القومية الكبيرة تعطل سنوات طويلة لأنني أم، حتى جاءت امرأة مثلي وتولت رئاسة تحرير المجلة الفنية، وقدرت أنني حملت العمل داخل المجلة على كاهلي وحدي في ظل غيابها وغياب كثير من الزملاء، أثناء إعداد أول مهرجان فني في مارينا ترعاه المجلة والمؤسسة، فقررت تعييني.
أذكر أنني لم أفرح يوم صدور قرار تعييني، بل صمت تماماً وأصابني الذهول، ثم اتصلت بأمي وانفجرت في البكاء .. بكيت وحزنت جداً لكل القهر والاضطهاد وعدم تقدير جهدي وأمانتي وحرصي على أداء عملي بما لا يقل أبداً عن أي ذكر، رغم تحملي لمجهود مضاعف من الحمل والولادة ورعاية طفلين، ثم جاء الاعتراف في وقت متأخر وأنا لم أعد أكترث لشيء يخص هذا المكان الذي بدأت العمل فيه وأنا ما زلت طالبة في كلية الإعلام، وأخلصت له تماماً فلم يعرني اهتماماً، ليأت قرار تعييني فقط لأنني تحملت مسئولية العمل في ظل غياب الجميع ولم أنتهز الفرصة لأجلس في منزلي في ظل غياب رقابة الرؤساء.. يا له من سبب تافه يمحو كل جهد وتميز ومثابرة في العمل لسنين طويلة، لمجرد أنني حملت وأنجبت.
الصورة الذهنية للأم العاملة العالة على بيئة العمل ظلت تحاصرني طوال سنين عملي، لذلك تعلمت أن أخلص لمشروعي الخاص، والتعامل مع نفسي باعتباري مؤسسة صحفية مستقلة، وأن لا أنتمي أبداً لمؤسسة صحفية، بل أخلص لاسمي .. اسمي أنا وحدي.
أمينة طلعت كاتبة مهمة وأم عظيمة ، ومثقفة لا تلهث وراء الاضواء ، امرأة سوبر
LikeLike